تعددت خلال الأيام والأسابيع الماضية لقاءات وريث العرش الملكي في ليبيا الأمير محمد الرضا السنوسي مع القيادات الاجتماعية والأكاديمية والخبراء الاقتصاديين والفعاليات السياسية والحقوقية من مختلف أرجاء البلاد، في إطار ما يسمى بالعودة إلى حراك الشرعية الدستورية، حيث تم التطرق إلى عدد من الملفات المهمة التي تشغل الرأي العام الليبي، وعلى رأسها مصير الدولة وسيادتها ووحدة أراضيها ومدى قدرة الفاعلين الأساسيين على تجاوز حالة الانقسام التي جرى تكريسها خلال السنوات الأخيرة نتيجة الصراع القائم بين الشرعيات المتنافرة والتنافس على السلطة والثروة تحت غطاء تدخل خارجي يهدف إلى تقاسم النفوذ داخل الجغرافيا الليبية وفي محيطها الإقليمي.
أهم سؤال يمكن طرحه في هذا السياق هو: ما الذي يمنع وريث العرش السنوسي من العودة إلى بلاده ولو في زيارات متباعدة والنزول بين أهله في برقة وأعمامه في طرابلس ليكون جزءا من المشهد السياسي والاجتماعي في البلاد؟ لاسيما أن الحاجز القانوني قد انتهى بالإطاحة بنظام العقيد الراحل معمر القذافي، وأن ما يتمتع به من شرعية تاريخية يفتح أمامه المجال لكي يتنقل بين مدن وقرى بلاده، ويختبر مدى ما يحظى به من شرعية شعبية على الأرض.
يرجح الكثيرون أن يأتي الأمير بالجديد في كلمته بمناسبة الذكرى الثانية والسبعين لقيام النظام الملكي في الرابع والعشرين من ديسمبر القادم؛ وذلك لأسباب عدة، منها أن المقربين منه يشيرون إلى أن لديه ما يقول في سياق اجتراح الحل للأزمة المتفاقمة منذ العام 2011، وأنه بات يحظى بدعم شعبي واضح أكدته له الوفود التي زارته في منفاه الاختياري والتي تمثل مناطق جغرافية وفئات اجتماعية وتيارات سياسية وقطاعات مهنية مختلفة، كما أن إمكانية العودة إلى الملكية الدستورية أصبحت من البدائل المطروحة بقوة والمدعومة من أطراف إقليمية ودولية لتجاوز فشل النخب السياسية الحالية في تكريس نظام جمهوري ديمقراطي تعددي.
في كلمته للشعب الليبي بمناسبة الذكرى الحادية والسبعين للاستقلال، قال الأمير محمد الرضا إن الشك لم يخالجه طوال العقود الماضية في أن الشعب الليبي سيظل شامخا “أمام أي محاولات لسرقة حقه التاريخي في استرجاع شرعيته الدستورية المتمثلة في المملكة الليبية، التي تعرضت خلال سنوات طوال لمحاولات وحملات من التشويه والتشكيك ليس آخرها محاولة اختطاف دستور دولة الاستقلال من قبل البعض، بعد أن بات واضحاً للجميع أنه لا سبيل لإصلاح حال وطننا، إلا بما صلُح أولّه”.
وأضاف أنه أمضى الشهور والسنوات القليلة الماضية في اللقاء والتشاور مع العديد من القوى الوطنية والاجتماعية في ليبيا والتي اتفقت جميعا، على اختلاف أفكارها وتوجهاتها، على أن الشرعية الدستورية المتمثلة في المملكة الليبية لا زالت تمثل المظلة المناسبة لشركاء الوطن الواحد، وأنه لا سبيل للخروج من المأساة التي ألمت بالبلاد إلا من خلال حوار وطني يضع نصب عينيه الوصول إلى بر الأمان المتمثل في دولة يحكمها الدستور، مؤكدا أنه أوضح في جميع لقاءاته مع ممثلي القوى الدولية هذه الرؤية الوطنية الواضحة والتي لا تقبل التأويل أو التسويف، في بناء الاتفاق الداخلي حول البناء السليم للعملية السياسية التي تحمل آمال الليبيين في الوصول إلى طريق يضمن لبلدهم وضع اللبنات السليمة لبناء المستقبل الزاهر والاستغلال المناسب لحفظ ثرواته بما يخدم أجياله القادمة.
في 16 أكتوبر 1918 أعلن عن تأسيس الجمهورية الطرابلسية في الجزء الغربي من ليبيا الحالية، لتكون أول جمهورية في المنطقة العربية. وجاء في بيان التأسيس أن الأمة الطرابلسية قررت تتويج استقلالها بإعلان حكومة جمهورية باتفاق آراء علمائها الأجلاء، وأشرافها، وأعيانها، وقادة مقاتليها الذين اجتمعوا من جميع أنحاء البلاد، وقد تم انتخاب أعضاء مجلس الشورى الطرابلسي، وانتخب أعضاء مجلس الجمهورية وافتتح أعماله بتبليغ إعلان الجمهورية إلى الدول الكبرى وإلى الحكومة الإيطالية.
وقد روى الشيخ الطاهر الزاوي في كتابه “جهاد الأبطال في طرابلس الغرب” أن الجمهورية الطرابلسية “كان لها أحسن الأثر في نفوس الشعب، ونشاط سري في جميع مرافق الحياة وأحس الناس بتطور غريب في حياتهم السياسية، اعتقدوا أن مصدره هذه الجمهورية التي رأوا فيها فتحا مبينا، وثمرة من ثمرات جهادهم الموفق، ولم يكن سكان المدن أقل فرحا بهذه الجمهورية من إخوانهم المجاهدين، فقد كان شعور الليبيين جميعاً متجهاً إلى ناحية واحدة وهي التغلب على الطليان، وكانت الجمهورية مثالا بارزاً في التعبير عن هذا المعنى، فكانت في محل الإجلال والتعظيم من نفس كل ليبي”.
لم تدم الجمهورية الطرابلسية إلا ستة أشهر و15 يوما، حيث انتهى مشروعها بحلول الأول من يونيو 1919 عندما تم إنشاء حكومة الإصلاح الوطني من قبل ملك إيطاليا فيكتور عمانويل الثالث، وإصداره مرسوما يقضي بمنح الجنسية الإيطالية لغير المسيحي، وينص على تشكيل حكومة في طرابلس الغرب يرأسها الوالي الإيطالي وبعضوية ثمانية من المتطلينين.
واللافت أنه بعد 100 عام لم يتمكن الليبيون من إيجاد زعماء في مستوى الشيخ سليمان باشا الباروني ورمضان السويحلي وعبدالنبي بالخير وأحمد المريض الذين كانوا وراء تأسيس الجمهورية الطرابلسية. وأن نسبة كبيرة من الشعب باتت تحلم بالعودة إلى النظام الملكي الذي كان متقدما في عصره على ما أضحت عليه البلاد حاليا.
بعد الإطاحة بنظام القذافي في العام 2011 ارتفعت بعض الأصوات الداعية للعودة إلى النظام الملكي وخاصة في المنطقة الشرقية، وكذلك بين الأقليات التي رأت في الملكية الدستورية حصنا محترما لتأمين خصوصياتها الثقافية والاجتماعية ومشاركتها السياسية، ثم كان الحديث عن العودة إلى دستور 1951 تعبيرا عن جملة من الدوافع والمبررات ومنها فشل القوى السياسية في التوافق على دستور جديد وتمرير مسودة دستور 2017 وذلك نتيجة الخلافات الحادة حولها بسبب هيمنة منطق المغالبة من قبل أطراف بعينها بما أدى إلى ظهور نزعة الإقصاء السياسي ومحاولة تجاهل التباينات الأيديولوجية والثقافية والاجتماعية والديمغرافية والمناطقية في البلاد، كما كان واضحا أن قوى بعينها كانت تعمل على بسط نفوذها على الدولة ومؤسساتها السيادية وثرواتها ومقدراتها تحت غطاء ديمقراطية مزوّرة تتزعمها تيارات الإسلام السياسي التي ترى في نفسها الأقلية المؤهلة لحكم الأغلبية باعتماد عملية تفكيكية للمجتمع السياسي.
في العام 1963 تم تعديل الدستور وإلغاء النظام الفيدرالي وبناء نظام مركزي باسم المملكة الليبية، واستمر الوضع على ما هو عليه إلى حين الإطاحة بنظام العقيد القذافي في العام 2011 حيث عاد الخطاب التقسيمي، وتم تكريسه من خلال التوافقات السياسية عبر اعتماد المحاصصة في المناصب التنفيذية والسيادية. فقد كان الإعلان عن قيام إقليم برقة في مارس 2012 منطلقا لجدل واسع حول مبدأ العودة بعيدا إلى الوراء، لكن المنطقة الشرقية الغنية بالثروات والتي ترى نفسها قد تعرضت للتهميش خلال العقود الماضية، كانت تحمل وراءها النزعة الملكية التي لا تزال راسخة في نفوس العديد من أبنائها، وقصب السبق في التمرد على النظام السابق، والإحساس باختلاف ثقافي مرتبط بطبيعة الخلاف بين المشرق العربي الذي تعتبر واجهته الغربية، والمغرب العربي الذي تمثل طرابلس واجهته الشرقية.
خلال الفترة الماضية اجتمع وريث العرش السنوسي مع وفود من مناطق من غرب البلاد، ومنها بالخصوص مصراتة التي تمثل أحد أهم مراكز القرار السياسي في البلاد وطرابلس وزليتن وجبل نفوسة، وبرزت الكثير من الأصوات من داخل الجماعات المسلحة تنادي بضرورة العودة إلى النظام الدستوري لما قبل سبتمبر 1969، يضاف إلى ذلك أن كفاءات متخصصة في مختلف المجالات والميادين التشريعية والقانونية والسياسية والاقتصادية والثقافية اتجهت لإعداد دراسات علمية متخصصة ولوضع برنامج متكامل للمشروع الذي يطرحه الأمير محمد الرضا السنوسي والذي بات محور نقاشات واسعة في مراكز أكاديمية كبرى في لندن وواشنطن وعواصم أخرى.
قد يكون من الصعب الجزم بإمكانية العودة إلى النظام الملكي، ولكن على الأمير أن يخوض غمار العمل السياسي من داخل المشهد الليبي، وأن يتواصل مع شعبه من خلال تيار سياسي ملكي قد يأخذ صيغة حزب ملكي أو حركة دستورية تتحرك على نطاق واسع من داخل الشرعية السياسية والاجتماعية، وقد يتحالف مع تيارات أخرى تتقارب معه من حيث الرؤية الدستورية الديمقراطية الليبرالية التي تشكلت على أساسها دولة الاستقلال.
أنقر هنا لقراءة المقال من مصدره.